أثناء ممارستي مهنة المحاماة يمر علي – مثلي في ذلك مثل كثير من الزملاء – كثير من الشخصيات الغريبة التي تتقمص صفة المحامي وتمارس أعماله في المحاكم، وهم ما يسمون بالوكالاء الشرعيين، الذين يتناثرون حول مباني المحاكم يلتقطون أرزاقهم من روادها من أصحاب القضايا الذين يبحثون عمّن يترافع عنهم ويقدم لهم المساعدة بأتعاب قليلة يستطيع دفعها، ولا يفرقون بين المحامي المؤهل و«الدعوجي» الذي ينحصر كل تأهيله العلمي في القدرة على تحريك لسانه بسرعات عالية مع نبرة صوت مرتفعة،
أولى خطوات اصطياد العملاء من مكاتب الوكلاء الشرعيين أن يبدأ بسرد بطولاته العظيمة في قاعات المحاكم، وكيف أنه يصول و يجول فيها كالفارس في ساحة المعركة، ويرعب الخصوم، حتى إن القضاة تقشعر أبدانهم عندما يرونه حاملاً حقيبته وأوراقه، وبعد تلك المقدمة الدرامية يقوم «الدعوجي» النحرير بتقديم الاستشارة القانونية المحكمة لذلك المسكين أو المسكينة، بغض النظر عن طبيعة القضية وملابساتها، أو هل قرأ وثائقها أم لا؟ لأنه قادر على أن يفتي فيها على أية حال مع أنه لم يمر به شيء في حياته يقال له «القانون» لأنه في الأصل لم يكمل الصف الثالث المتوسط ويفتي في قضايا في القانون الإداري يهاب الدكتور سليمان الطماوي لو كان حياً أن يعطي رأياً شفهياً فيها، إلا أن صاحبنا يعطي فيها رأياً وهو يرتشف فنجان القهوة، تماماً كما يفعل كثيرون من ناتئة «تويتر» ومشاهيره، من دون أي اعتبار لقداسة القانون وصعوبة مسالكه.
لكن مع كثرة تلك الشخصيات التي مرت علي من الوكلاء، فإن أطرفهم ذلك الذي جاء ذات جلسة في قضية «قتل»، كنت يومها محامياً عن المدعين بالحق الخاص، الذين يطالبون بالقصاص من المتهم، وفي تلك الجلسة حضر مع المتهم الذي يحمل جنسية غربية ويتحدث الإنكليزية فقط؛ شخص عرّف نفسه للقاضي بأنه «وكيل شرعي عن المتهم» وأن الوكالة قيد استكمال الإجراءات القانونية، وكان يتحدث الإنكليزية بطلاقة، فدار في خلدي أنه من المحامين المعروفين، وخصوصاً أن القضية جنائية كبيرة، وفيها شخصية أجنبية؛ إلا أنني اكتشفت بعد الجلسة أنه من فئة الوكلاء، ولا علاقة له بالقانون، وأنه فقط أراد تقديم خدمة لهذا المتهم الأجنبي الذي تعرف إليه في السجن، إذ كانا زميلين في زنزانة واحدة، إلا أن قضية هذا الوكيل كانت مالية تمت تسويتها، فقرر بعد خروجه من السجن أن يقضي وقت فراغه بممارسة المحاماة في قضية جنائية كبيرة يتردد كبار المحامين في أن يترافعوا بها، إذ إن أي خطأ من المحامي قد يتسبب في الحكم على المتهم بالقصاص، وهذا ما يرعب أي محام يعي تلك القيم، إلا أن تلك المحاذير غير واردة لدى الوكلاء الهواة المتطفلين على مهنة المحاماة، لأنهم مؤمنون بالمثل النجدي القديم «افتح فمك؛ يرزقك الله».
الجمعة، ١ مايو/ أيار ٢٠١٥