صدور الأنظمة العدلية الثلاثة «نظام المرافعات الشرعية والإجراءات الجزائية والمرافعات أمام ديوان المظالم» تعد إكمالاً للمسار التشريعي في مشروع الملك عبدالله لتطوير القضاء، حيث إن المشروع لا يشمل فقط الجوانب المادية الملموسة من تأمين مبانٍ حديثة وإعادة هيكلة للمحاكم وإنشاء محاكم جديدة؛ وإنما هناك جانب من المشروع في غاية الأهمية وهو الجانب التشريعي الذي يرتكز على مراجعة الأنظمة القائمة التي لها علاقة بالعملية القضائية وسد النقص التشريعي في بعض المجالات التي تساهم في تحقيق الهدف الأساسي من المشروع وهو «العدالة الناجزة».
الجانب التشريعي هو «النص» القانوني الذي سيحكم من سيجلس على المنصة القضائية في تلك المباني الفاخرة، و«النص» هو الذي سيضمن ديمومة عملية التطوير والتحديث، وسيحول دون من سيحاول إرجاع العربة إلى الوراء، أو وضع العصي في الدواليب، من الفئة التي يهدد المشروع مصالحهم ونفوذهم.
منذ بدء مشروع تطوير القضاء صدرت عدة تشريعات؛ منها نظام القضاء ونظام ديوان المظالم ونظام التنفيذ، ثم جاءت هذه الأنظمة العدلية لتكمل المنظومة، وتحكم سير الخصومة من حيث «الشكل» وتحديد كل ما يتعلق بالخصومة إجرائيّاً، لكن مازلنا ننتظر «تقنين» الأحكام الموضوعية، وإصدار المدونات القضائية المكتوبة التي تنظم القضايا الأسرية والمالية والجنائية بنصوص قانونية محددة، تنهي حالة التناقض والتباين في الأحكام ما بين المحاكم، وفي نفس الوقت تسرع في البت في الخصومة لأن إيجاد قانون مكتوب سيسهل على القاضي الفصل في الخصومة وسيوفر عليه الاجتهاد والبحث.
ملف «التقنين» تأخر حسمه كثيراً، واستنفد منا كثيراً من النقاشات التي أصبحت الآن نقاشات عقيمة لا تتواءم مع اللحظة التي تعيشها الدولة والمجتمع؛ فوجود قانون مكتوب يحكم كل ما له علاقة بالبشر؛ مسألة بدهية لا تحتاج إلى حشد أراء من فقهاء، بل هي في حاجة إلى قرار يعيد الأمور إلى نصابها، وينتصر لمفهوم الدولة الحديثة التي لا يمكن لها أن تتحرك إلا في ظل قوانين تحكم حراكها، وقد أهدرنا أوقاتاً ثمينة من عمر هذا الوطن في جولات من الجدل العقيم، مع أناس أجسادهم معنا وجماجمهم هناك؛ حيث لا زمان ولا مكان.