يأتيك أحدهم ويكتب لك في حسابك في الشبكات الاجتماعية ما تيسَّر وفتح الله عليه من الشتائم والسباب التي تبدأ بنعتك بالفسق وتنتهي بوصفك بالفجور، ثم ينهي تلك الحفلة بصك «تكفير» أوله عنده وآخره عندك، وما إن تستعين بالله وتعطيه «بلوك» ، أو تحرك عليه دعوى قضائية؛ حتى يملأ الأرض ضجيجاً بأنك لا تقبل النقد ولا تتقبل الرأي الآخر، ثم تأتي المرحلة الأكثر إثارة عندما يطلق في وجهك ذلك السؤال السرمدي الذي يتوارثونه كابراً عن كابر: «أين الحرية التي تتشدقون بها؟».
تلك الصورة المتكررة تبين أزمة إخوتنا الغلاة مع قيم جديدة عليهم مثل الحرية وحقوق الإنسان الرائجة هذه الأيام التي وجدوا أنفسهم مضطرين لأن يتعاملوا معها دون أن يدركوا مفاهيمها، حالهم في ذلك كحال من دخل غيبوبة في كهف منذ مئات السنوات ثم بُعث من مرقده ورأى الناس حوله فأخذ يسألك عن ذلك الشيء الذي يحدث جلبة في جيبك ثم تخرجه وتضعه قريباً من أذنك فتتحدث به مع نفسك، عندها لا يمكن أن تقول له ببساطة: لعلك تقصد «الهاتف»؟ أو تقول له: هذا جهاز آيفون، اشتريته ليلة البارحة من أمازون، وتسلمته عن طريق شركة البريد السريع، لأن ذلك الشخص الغائب عن هذا العالم لن يدرك تلك المفردات «هاتف – آيفون – أمازون – بريد» وسيتعامل معها على أنها طلاسم، لذا لابد لك أن تشرح له قصة الاتصالات ثم اختراع الهاتف ثم الجوال ثم الأجهزة الذكية وكل التفاصيل التي تقنعه أن ذلك ليس ضرباً من السحر.
حكاية العائد من الغيبوبة تماثل تماماً حكاية أحبتنا الغلاة مع القيم المدنية الحديثة؛ فهم يرددونها كـ «طلاسم»، فأحدهم يريد أن يكفِّرك وفي نفس الوقت يدعي أنه يمارس حرية الرأي والتعبير، فهو يعتقد أن من حقه أن يكفِّرك لكن «بشويش» لأنه لا يريد العنف، مع أنه يعلم الأبعاد الشرعية لـ «التكفير» وأنه تحريض على القتل الذي هو بدوره انتهاك لحق الإنسان في الحياة، وهو في النهاية ضرب من ضروب «العنف»، وفي ذات الوقت هو لا يؤمن بتلك القيم وإنما جاء بها على سبيل المجاراة، وإلا فإن تطبيق تلك المبادئ سيسلب منه أفضل هواياته في هذه الحياة الدنيا، وهي «التكفير وجمع الطوابع».