المحاكم وأزقتها الطويلة والمتعرجة تحتاج إلى قدرات خاصة في التحمل لمن أراد أن يلج فيها مختاراً أو مضطراً، لدرجة أنك قد تتنازل عن حقك أو جزء منه تفادياً للدخول في دوامة طويلة عريضة تخدم المماطل وترهق صاحب الحق الأبلج، وكل ذلك كان بالإمكان تفاديه لو فكرنا خارج الصندوق وابتكرنا حلولاً قضائية لا تتعارض ومقاصد الشريعة وأصولها الثابتة، وفي الوقت ذاته تساعد في ردم المعضلات التي تحول دون حصول أصحاب الحقوق على حقوقهم بالعدالة الناجزة.
من أبرز القضايا التي تشكل نسبة كبيرة من الخصومات القضائية التي تنظرها المحاكم، المطالبات المالية بأنواعها المختلفة التي هي في غالبها حقوق ثابتة، إلا أن المماطلين في الأرض يستغلون عدم وجود قواعد قانونية وقضائية تفرض عليهم عقوبة على مطْلهم وتلاعبهم بحقوق البشر، فالمماطل يعلم أنه في النهاية سيدفع ما في ذمته للغير لكن يريد أن يكسب مزيداً من الوقت المجاني فلا داعي للعجلة، لكن لو كان يعلم يقيناً أنه سيتحمل مصاريف المحامي الذي اضطر خصمه إلى أن يوكله لأجل متابعة الإجراءات القضائية الطويلة، لسارع في سداد دينه وتجنب القضاء.
دعونا نتخيل أن تلك القضايا تستغرق بالمتوسط سنتين من نظر القضية في المرحلة الأولى إلى انتهائها بتصديق الاستئناف، هذا إذا لم يكن للاستئناف ملاحظات موضوعية أو أحياناً شكلية، إذ إن القضية قد ترجع من الاستئناف بسبب خطأ في الفهرسة أو غيرها من الملاحظات الشكلية، وكل ملاحظة تعني بالمتوسط ثلاثة أشهر (ذهاباً وإياباً)، إذ إن المتوسط الزمني الذي تستغرقه رحلة المعاملة من المحكمة الابتدائية إلى الاستئناف والعكس ثلاثة أشهر، إضافة إلى ذلك فإنه من المحتمل في مثل هذه القضايا أن يكون المُدعى عليه المماطل محترفاً وصاحب كار في تكنيك المماطلة وهذا سيطيل أمد الخصومة، يضاف إلى ما سبق إجراءات تنفيذ الحكم بعد أن ينال ختم الاستئناف بالمصادقة عليه، وبذلك نكون دخلنا في ثلاث سنوات مهلة مجانية لمماطل تفنن في استغلال الثغرات بكل جدارة والضحية كان صاحب الحق الذي صرف زيادة على حقه مبالغ طائلة مصاريف محاماة حتى يستخلص حقه،
الحل بكل بساطة أن تتدخل المحكمة العليا لتقر مبدأ قضائياً يلزم من يخسر القضية بمصاريف المحاماة للطرف الآخر وتضع له معياراً جامعاً مانعاً، وأن يكون الحكم بإلزامه بأجرة المحامي في القضية ذاتها من دون الحاجة إلى رفع دعوى ضرر جديدة تأخذ الدائرة القضائية نفسها في الدعوى الأولى، عندها سيحسبها المماطل حسبة التاجر وسيدرك أنه بمماطلته سيكسب الوقت لكنه سيخسر مبالغ إضافية على الدين الذي في ذمته، وسيجنب صاحب الحق دفع مصاريف إضافية لأجل استخلاص حقه لأن المماطل في النهاية هو من سيدفعها، وأنا على قناعة تامة أن مثل هذا المبدأ لو تم إقراره والعمل به لتخلصت المحاكم من أرتال من القضايا التي أشغلت قضاتها وأسهمت في فتح ثغرات للمماطلين يتلاعبون من خلالها بحقوق البشر.
نحن الآن بحاجة إلى أن نفكر خارج الصندوق، وألا نكون أسرى لإجراءات أخذت قداسة على مر الزمن من دون أن تكون مقدسة بذاتها، فحيث كانت المصلحة فثم شرع الله.
الجمعة، ١٢ يونيو/ حزيران ٢٠١٥