من أبرز الصفات التي يتحلى بها قادة الجماعات الإسلاموية ومنظروها قدرتهم العجيبة على تغيير جلودهم على مدار فصول السنة، والتأرجح بين المواقف المتناقضة بكل رشاقة على أنغام الأهازيج السياسية، ومع ذلك كله يمتلكون قدرة خرافية على طمس الماضي وتزويره لأنهم – على ما يبدو – على قناعة تامة بأن ذاكرة متابعيهم قصيرة، ولم يتعودوا على تحليل مواقف قياداتهم الحركية أو نقدها – لا قدر الله – وإنما دورهم ينحصر فقط في الانصياع الكامل والتسليم، وتبرير تلك المواقف وتسويقها مهما كانت متناقضة، بناء على قاعدتهم الذهبية أن «الشيخ لا يخطئ».
فتجد أحدهم بعد تجربة ثورية فاشلة في بداية التسعينات كان يبشر فيها بـ «حتمية المواجهة»، وينظّر عن «أسباب سقوط الدول»، يتبنى خطاباً دينياً معتدلاً ليكون هذا الخطاب القنطرة التي تصله بأضواء الإعلام ووهجه، فهجر السياسة وترك الخوض فيها، وانشغل في أحاديث تنمية الذات وأحكام أعياد الميلاد، وظن من لا يعرف هذا التيار بأن صاحبنا بالفعل خلع عباءة الثورة وطوى صفحة الماضي إلى غير رجعة، إلا أنه سرعان ما تحركت جينات الفتى الثائر الكامنة في داخله مع أولى نسمات الثورات العربية، معتقداً بأن رياحها ستصل إلى بلده، فلبس جبته الثورية من جديد كي يكون مستعداً للتغيرات السياسية التي كان يتوهمها هو ورفاقه، مؤمنين بأنها آتية لا ريب، وبدأ يثير أسئلة الثورة ويؤصل لها، فعاد الشيخ إلى صباه، وطوى صفحة الخطاب الديني المعتدل والأحاديث الرومانسية، ومضى يدشن مرحلة جديدة من مراحل تقلبات الشيخ.
وزاد ثوريته وهجاً واشتعالاً بعد أن شاهد جماعته تعتلي عرش مصر، فظن أن التمكين قاب قوسين أو أدنى، وأن أحلام التسعينات بدأت تتحقق، إلا أن حساباته هذه المرة كانت خاطئة، فسقطت الجماعة وسقط معها حلمه وأوهامه وأسئلته عن الثورة، فلم يكن أمامه سوى العودة تدريجياً إلى خطاب ما قبل الثورة الثانية، تاركاً كل ذلك الضجيج وراء ظهره، واثقاً بأن الأتباع – كعادتهم – سيتناسون، وأنهم سيكونون معه على أي لون يتلون به من دون الحاجة إلى الاعتذار لمن غرر بهم، لأنه ليس من طبيعته أن يعتذر عن مواقفه الخاطئة، فالاعتذار فقط لسائقي الأجرة، ولا سيما في المغرب الشقيق.
تلك الحال ليست مقتصرة على فرد بعينه من الإسلامويين، وإنما هي الطابع الغالب على قياداتهم ومنظريهم، وهي جزء من تكوينهم الأيديولوجي لا يمكنهم الفكاك منه، ومن ثم يمكن أن تتفهمه في سياق أدبياتهم البراغماتية ولهاثهم خلف بريق السلطة.
لكن المستغرب أننا في كل مرة تنطلي علينا حيلة التراجع الماكر، ونصدق أكذوبة التراجع عن الحس الثوري والفكر الديني المتطرف، من دون أن تكون هناك مراجعات فكرية يقومون بها تؤكد بالفعل أنهم تراجعوا عن أفكار التطرف، كما فعل زعماء «الجماعة الإسلامية» في مصر. فلا يمكن الثقة بشخص يترك تراثه الفكري الملغم وراء ظهره من دون أن يقوم بعملية تفكيك لتلك الألغام، كي لا تنفجر في وجوه الشباب الذين يتناقلونها عبر الأجيال، فذلك التراث ما زال قائماً ومنتشراً، وهناك من يعتنقه ويؤمن به، حتى ولو كان أربابه تراجعوا عنه، والمفكر الحقيقي يمتلك الشجاعة الأدبية لأن يقول: «لقد أخطأت». عندها يمكن الثقة بخطابه الجديد، لكن من دون ذلك سنقع في فخ التراجعات الكاذبة، وسنلدغ من الجحر ذاته مرتين.