كان من أوائل القرارات التي اتخذها الملك عبدالله بن عبدالعزيز – رحمه الله – إنشاء هيئة البيعة، كمؤسسة دستورية تعنى بتنظيم انتقال السلطة بين أبناء وأحفاد الأسرة الحاكمة، إذ تصدى بشجاعة لأكثر الملفات تعقيداً وأشدها حساسية، وواجهها بآلية دستورية تضمن تماسك مؤسسة العرش، التي تمثل قوة واستقرار هذه الدولة.
ونظام هيئة البيعة جاء استكمالاً لحزمة من الوثائق الدستورية التي أصدرها الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز – رحمه الله -، وهي النظام الأساسي للحكم ونظام مجلس الوزراء ونظام مجلس الشورى ونظام المناطق، فجاء الملك عبدالله ليتوجها بنظام هيئة البيعة بصياغة قانونية بديعة، وخطا خطوة جريئة حين استحدث منصب (ولي ولي العهد)، ليعمق استقرار الدولة السياسي ويعزز سلاسة انتقال السلطة بشكل آمن.
واستكمالاً لهذا النهج المسؤول جاءت اللحظة التاريخية التي كان فارسها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وذلك بأن دشن انتقال السلطة من الأبناء إلى أحفاد المؤسس، بتعيين الرجل المنجز الأمني الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز ولياً لولي العهد، منهياً بذلك أحلام وأمنيات اللاهثين وراء سراب أحاديث الفتنة والمتحلقين حول دعاتها، وكل تلك الإجراءات المتعاقبة والمتباعدة زمانياً، تؤكد أن هناك نهجاً متوافقاً متناغماً في مؤسسة الحكم في السعودية، وأن هناك خطوات يبنى بعضها على بعض، والخلف يستكمل ما بناه السلف، لمصلحة وطن يتخطف الناس من حوله. لم تكن هيئة البيعة هي المنجز الأهم للراحل، بل كانت هناك محطات عظيمة في عهده يصعب تناولها في هذه المقالة، إلا أنني سأتحدث – بحكم عملي كمحام – عن ملف بالغ الأهمية، كان له اهتماماً خاصاً لديه هو ملف القضاء، إذ دشن مشروعاً عظيماً لتطوير المرفق العدلي وتحديثه، وكان يومها ينظر إليه كثير ممن لهم علاقة بالمؤسسة العدلية أنه ضرب من الأحلام لا يمكن إنزاله على الأرض لاعتبارات عدة، لم يكن من بينها الجوانب المالية على الإطلاق، إلا أنه راهن عليه ورصد له الإمكانات والأموال، وقبل ذلك هيأ له الرجال المؤمنين برؤيته، وبعد أعوام بدت ثمرة هذا المشروع بالظهور، ولمس المنتمون إلى المهنة بنتائجه على آلية إدارة الخصومة، وعلى هيكلية المؤسسات القضائية والقوانين الجديدة التي تحكم عملها، ورأينا تباشير واقع قضائي جديد يتشكل وفق الرؤية التي خطط لها – رحمه الله -، فكسب الرهان وخسر المتشائمون.
كان اهتمام الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز شخصياً بالملف العدلي مرجعه إلى نقطتين أساسيتين، الأولى: ارتباط هذا الملف بقيمة العدل وحقوق الناس، والتي تشكل حجر الأساس لدولة سيادة القانون، والثانية تعزيز سيادة القانون التي تشكل هي الآخر المرتكز الأساسي للاستثمار الأجنبي والمحلي، فلا يمكن لشركة أن تضخ استثمارات في دولة من دون أن تكون مطمئنة من نظامها القانوني والقضائي، وهذا ما فعله عبدالله بن عبدالعزيز.
لقد ترجل ذلك الفارس وترك خلفه منجزات جبارة، ستكون شاهدة على عصر عظيم وعهد حافل بالمنجزات التي ستخلد اسمه في ذاكرة السعوديين وغيرهم، رحمه الله رحمه واسعة واسكنه فسيح جناته.