بينما الجلسة القضائية في أوج سخونتها، يقطعها أحد المراجعين الذي يقف ممسكاً بأوراقه على منصة القضاء ليطلب من القاضي أن يوقع له ورقة الموعد، أو خطاباً موجهاً للشرطة، أو مترجياً القاضي أن يقرب له موعده الذي أخذه لقضيته وحدد بعد خمسة أشهر أو يمتعض من مماطلة خصمه الذي لم يحضر الجلسة الثالثة، ناهيك عن الطلبات المتكررة من أصحاب معاملات الإنهاءات الذين يشعرون القاضي بأن الشهود ومزكيهم قد اكتملوا، وأنهم في عجلة من أمرهم فهم موظفون وقد أخذوا إجازات من أعمالهم من أجل أن ينهوا المعاملة في هذا اليوم، ذلك مشهد يتكرر يومياً أمام كل من قذفت به الأقدار أن يلج مكتباً قضائياً في محاكمنا العامة، وكلما عاودت الجلسة لسخونتها غشيها أصحاب الحاجات الإدارية ليقطعوا أحبال أفكارها وتسلسل وقائعها، فلا تعلم أي دفع قدمته ولا أي وثيقة ضبطت في الجلسة، وهذا التشتت لا يؤثر على أداء القاضي فحسب وإنما ينسحب على أطراف الخصومة فيطول أمدها وتمتد جلساتها وكل ذلك يحدث لأن القاضي يمارس أعمالاً إدارية إلى جانب عمله الأصيل وهو العمل القضائي الذي ينحصر فقط في الفصل في الخصومة، مما حمّله أعباءً إدارية يفترض أنه لا علاقة له بها، وإنما هي منوطة بالكوادر الإدارية في مكتب القاضي المختص في التعاطي معها مباشرة دون الرجوع إلى القاضي من خلال مضبطة إجراءات واضحة وصارمة تمنع إهدار وقت القاضي والمتخاصمين وتحول دون عرقلة إجراءات التقاضي وسرعتها. لا أحد يجادل في أهمية تأمين إعداد مناسبة من القضاة في المؤسسات القضائية وفق المعايير الدولية تكون قادرة على إدارة القضايا وفق مفهوم العدالة الناجزة، ولكن الأهم من الكم ومن إعداد القضاة أن يتم التخلص من الترهلات البيروقراطية في الأداء القضائي حيث لا بد أن يتفرغ القاضي لأداء عمله الأساسي وهو الفصل في الخصومات وأن يتم تأمين موظفين من خريجي الشريعة والقانون والمدربين تدريباً جيداً على معالجة الإجراءات الإدارية المتعلقة بالعمل القضائي، والتخلص من فكرة المركزية التي ما زالت مسيطرة على المكاتب القضائية، وأن يكون هناك مدير لمكتب كل قاض تكون له الصلاحيات الكاملة في البت في المسائل الإدارية، عندها سنوفر على القاضي أوقاتاً مهدرة كان يفترض أن تخصص لأصحاب القضايا الذين يتذمرون من تباطؤ وتيرة التقاضي وبطئه.
عندما يعلن القاضي بداية الجلسة فيجب ألا تنقطع لأي سبب من الأسباب، حماية لهيبة مجلس القضاء وهو المعمول به في كل المؤسسات القضائية في هذه المعمورة، وهو ما يتفق وطبيعة العمل القضائي، وقد كان لديوان المظالم -وهو مؤسسة قضائية وطنية- تجربة إيجابية في هذا المجال؛ حيث خصصت قاعات لنظر القضايا منفصلة تماماً عن المكاتب الإدارية للدوائر القضائية، لا ينظر فيها القضاة إلا القضايا المجدولة فقط، دون ممارسة أي عمل إداري مما انعكس بشكل إيجابي وملحوظ على أداء الدوائر وسرعة الإجراءات القضائية والبت في القضايا، لأنهم تخلصوا من العوائق التي تسد مجرى السير الطبيعي لنظر القضايا والفصل فيها، وبما أن التجربة قد نجحت وأحدثت أثراً في تحسين الأداء القضائي؛ فلِم لا يتم استنساخها بالكامل ونقلها إلى المحاكم العامة من أجل القضاء على أهم أسباب تذمر الناس من القضاء وهو بطء الإجراءات.
توفير أعداد إضافية من القضاة دون وجود معايير واضحة لجودة الأداء القضائي لن يساهم في حل قضية تكدس القضايا على أرفف أصحاب الفضيلة القضاة، وإنما سيكرس البيروقراطية ويغذيها لأن القضاة الجدد سيدورون في ذات الدائرة التقليدية السابقة ومن ثم نكون أمام مشكلة أخرى وهي الترهل الإداري التي تستنزف موارد وزارة العدل دون أن يكون هناك مقابل يلمسه المواطن من صرف تلك الموارد، لذا من المهم أن نفكر بحلول خارج الصندوق وبعيداً عن الحلول المعلبة وهي غالباً معالجات إدارية لا تكلف الخزينة العامة أعباء مالية إضافية وإنما مجرد التأمل في تجارب الآخرين الذين سبقونا في الحلم بعدالة ناجزة.