بعد الثورات العربية وتداعياتها على المنطقة؛ وجد تيار الإسلام السياسي نفسه فجأة أمام مفاهيم لا علاقة له بها، مفاهيم غريبة على منظومته الفكرية الصارمة في القطعية مع منتجات الفكر الغربي، جاء على رأس تلك المفاهيم (حقوق الإنسان) التي كان لهم موقف حاد منها في السابق، إلا أن التيار أصبح بأمس الحاجة لها الآن لتسويق بضاعته،
لذا لم يتردد ذلك التيار النفعي في أن يركب تلك الموجه محاولاً (تطويع) مبادئها لمشروعه، دون أن يعي بأنها كتلة متكاملة لا تقبل التجزئة، فوقعوا في حالة ارتباك وتناقضات مضحكة، الدكتور الفنيسان -مثلاً- شارك في بيان (دولة الحقوق والمؤسسات) في الوقت الذي يفتي بجواز (تعذيب) المتهم، ويغرد فرحا بـ(اعتقال) أحد المثقفين ممن يختلفون معه، ويأتي الشيخ يوسف الأحمد ليطالب بتطبيق نظام الإجراءات الجزائية (والذي هو حق لكل متهم) على المتهمين القريبين من مشربه، وينشر في الوقت ذاته بحثا عن عقوبة السجن يقول فيه إنه لم يجد لها أصلاً لا في الكتاب ولا في السنة، ويسوق في ذات البحث أقوالاً لعلماء من السلف عاشوا في عصور ما قبل انبثاق فكرة حقوق الإنسان تجيز اعتقال المتهم في (معصية) دون حكم قضائي لمدة مفتوحة، بمعنى أن الاعتقال قد يمتد إلى خروج الدجال، ويرى الأحمد أن العقوبة بالسجن جاءت من القوانين (الوضعية) والشيخ لم يسأل نفسه قبل أن يطالب بتطبيق النظام؛ هل تحديد مدة ستة أشهر التي هي المدة القانونية للحبس التحفظي؛ لها أصل في كتاب الله وسنة رسوله؟ كذلك بقية الأحكام التي جاءت لحفظ حق المتهم والذي يحكمها مفاهيم حقوقية جاءت من بطون القوانين الوضعية، وحماسة الشيخ على تطبيق حقوق المتهم لم ينسحب على حق آخر من حقوق الإنسان، لا يقل أهمية عن حقوق المتهم، وهو الحق في المساواة وحق العمل، حيث إن مشروع الدكتور وإخوانه يتركز وبشكل أساسي على (التمييز ضد المرأة).
آخر تلك العبقريات الحقوقية؛ الدراسة التي قام بها باحث ماجستير أجازتها جامعة الإمام -على ذمة الخبر المنشور في صحيفة الحياة- جاء في زبدتها أن عمل المرأة كاشيرة يعد نوعاً من أنواع الاتجار بالبشر، لأن فيه اختلاطاً وفتنة، مع أن المجتمعات التي خلقت مصطلح (الاتجار بالبشر) لا تعرف الاختلاط ولا الفتنة، والعبقرية تكمن في أن صاحب البحث يريد بأداة حقوقية (تجريم) حق، يعتبر منعه أو الانتقاص منه جريمة وفقاً للأسس التي انطلق منها الباحث، والغريب أنه ينطلق من بيئة تعتقد أصلاً بإباحة الرق الذي يمثل الصورة النمطية للاتجار بالبشر وهم يعارضون من حيث المبدأ تقنين أو منع أياً من الممارسات المباحة، وبالتالي فهم يعارضون قانون واتفاقية مناهضة الاتجار بالبشر من حيث المبدأ، لأن أحكامها جرّمت عملاً إباحته الشريعة وهو الرق، لكنهم ولأسباب أيديولوجية استعانوا بها ركوباً للموجة، وعلى ذات المبدأ جاءت ممانعتهم الشرسة لمنع زواج الأطفال، لأن الشريعة -على حسب فهمهم- أجازته وبالتالي فلا يجوز للدولة أن تمنع أمراً مباحاً وهنا تكمن حالة الارتباك عندما يضطر هذا الباحث من أجل يناهض حقاً أصيلاً من حقوق الإنسان، وهو حق العمل بأن يحاول أن يطوّع مفهوم الاتجار بالبشر، الذي لا علاقة له بالفكر الديني، من أجل أن يسلب النساء حقهم في العمل، مع أن مفهوم الاتجار بالبشر قد حدده القانون الدولي بشكل واضح، وهو ذات القانون الذي أصدر اتفاقيات دولية تمنع التمييز ضد المرأة في العمل والتي يطالب جماعات الإسلام السياسي أن تنسحب منها فهم يؤمنون ببعض الحقوق ويكفرون ببعض.
صاحب البحث يعلم أن مصطلح (حرّمه الشيخ) و(مُجمع على تحريمه) لم تعد من المصطلحات التي تستهوي الجماهير، لذا اضطر أن يستعيض عنها بمفردات مدنية أصبح لها بريق وجاذبية لدى الناس، وإن كانت مفردات غربية، على قاعدة (وداوها بالتي كانت هي الداء).