في عام ٢٠٠٧ بدأت السلطات المصرية بعرض استفتاء على بعض التعديلات الدستورية و كان هناك تكتل من المعارضة يرفض تلك التعديلات و يعتقد أنها أقل من الطموح المطلوب ؛ لذا قرر اتخاذ موقف ” سياسي” بمقاطعة التصويت على تلك التعديلات ، و في المقابل هناك فصيل سياسي أخر وهو الحزب الوطني ” الحاكم ” ومن خلفه السلطة الحاكمة تدعم تمرير التصويت على الاستفتاء ، و في خضم تلك المعركة السياسية “البحتة ” تدخل شيخ الازهر يومها محمد سيد طنطاوي – رحمه الله – المصنف على أنه من مشائخ السلطة و أصدر فتوى بأن مقاطعة الاستفتاء لا تجوز شرعاً ، لأنها من باب كتمان الشهادة و الله عز وجل يقول ( و لا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) و عليه فيجب على كل مسلم و مسلمة أن يمتثل ؛ ليس لأمر السلطة و إنما لأمر الله ، فالامر تحول من أمر تحكمها قواعد الدنيا ، إلى شيء أخر محكوم بقواعد ما بعد الموت .
على جانب أخر من الضفة نجد شيخاً أخر من شيوخ المعارضة وهو الدكتور يوسف القرضاوي القائل ذات فتوى عن حكم المظاهرات ” فلا حرام إلا ما جاء بنص صحيح الثبوت، صريح الدلالة على التحريم. أما ما كان ضعيفا في مسنده أو كان صحيح الثبوت، ولكن ليس صريح الدلالة على التحريم، فيبقى على أصل الإباحة، حتى لا نحرم ما أحل الله ” نجد صاحب النص السابق يقحم نفسه هو الأخر في منطقة المباح ويفتي بعدم جواز التصويت لمصلحة انفصال شمال السودان عن جنوبه على سبيل المثال ، وهي عملية سياسية بحته مثلها مثل الاستفتاء على الدستور المصري يفترض أن تدخل في الاصل الذي تحدث عنه وهو “الاباحة” بل حتى المظاهرات نفسها نجد الشيخ لم يتركها تدور في فلك الاباحة كما قال ، بل جعلها واجبة في الثورة المصرية بمعنى أنها خرجت من المباح الذي تحدث عنه إلى دخولها في منطقة ( الواجب ) المثاب فاعله المعاقب تاركه ، مع أن معظم جماهير العالم كانت أفئدتها تهوي إلى ميدان التحرير و تدعم ثورة مصر ضد الاستبداد ؛ لإيمانها بقيمة الحرية المجردة ، لأن معظمهم لم يكن الحلال و الحرام حاضراً عندما يثور على الظلم ، و لم يكن بحاجة إلى من يفتي له بحرمة الصراخ في وجه المستبد الظالم ، و كان يسع الشيخ أن يقول رأيه مثله مثل بقية المراقبين للمشهد ، إلا أنه يصر كغيره من بقية رجال الدين على أن يقول رأيه الشخصي من خلال هالة النص الديني التي تمنع المخالفين له من مناقشتها أو حتى التشكيك فيها ،لأنه ما أن تسول لك نفسك الأمارة بالسوء من أن تختلف مع فتواه ” سياسياً” حتى يصيح أحدهم في وجهك : ( وماكان لمؤمنٍ ولامؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم…) أي أن ذلك الرأي هو حكم الله و عندما تعترض عليه فإنك تعترض على العزيز الحكيم و ليس على محمد سيد طنطاوي أو يوسف القرضاوي أو مفتي السعودية .
لن يجد مشائخ أحد الفريقين غضاضة من استخدام النص ذاته الذي استخدمه الطرف الأخر اذا كانت ظروفه السياسية بحاجة إليه ؛ فمن حرم المظاهرات لأنها ضرب من الفساد في الأرض ، لن يجد غضاضة في إباحتها ذات يوم إذا كانت لمصلحة السلطة أو السلطان ، عندها ستكون قربة من القربات إلى الله ، و قد يصل الأمر ببعض المتحمسين للمصلحة العامة أن يفتي بأنها فرض عين مستشهداً بالاية ( انفروا خفافا وثقالا ) بينما نجد الصورة نفسها لمشائخ المعارضة التي افتت بأن الخروج للمظاهرات واجب عيني في ثورة الغضب المصرية ؛ فلو كانت المظاهرات ضد جماعة الاسلام هو الحل ، أو المطالبة بإقامة دولة علمانية ـ فإنها ستدخل في المحرمات و الفساد و نزع يداً من طاعة ، و أن الملائكة تلعن المتظاهرين حتى يعودوا إلى بيوتهم إلى أخر البقية الباقية من الحجج التي أدمنا على سماعها عند كل حدث سياسي في منطقتنا ، و عليه فإن النص “جاهز ” و “كامن ” و يمكن أن يستخدم في أي لحظة تختلف فيها الرياح السياسية أو تختلف فيها قواعد اللعبة .
إن الافتاء بتحريم ممارسة سياسية ما يعني بأن من قام بها معرض للعقوبة يوم القيامة ، لأن التحريم – كما يعرفه جماهير الأصوليين – هو “ما يعاقب فاعله ويثاب تاركه ” لذا لا يمكن أن يتصور أن يسأل شخص يوم القيامة ” لما تظاهرت في يوم كذا و كذا” أو ” لما شاركت أو لم تشارك في استفتاء كذا و كذا” لأننا أن قلنا بذلك فإنه يعني أن يوم القيامة سيكون مجالاً لمحاكمات سياسية على مواقف سياسية او معاصي سياسية ، و سيكون هناك سجال سياسي في ذلك اليوم لأن من أحجم عن المشاركة في الاستفتاء ولم يطع المفتي سيدافع عن موقفه السياسي بالإدلاء بحجج سياسية ، و هكذا تنقلب أحداث يوم القيامة إلى اشبه ما تكون بمؤتمر سياسي تأباه قواعد الشريعة و مقاصد الدين التي اختصرها الرسول صلى الله عليه و سلم لذلك الأعرابي في خمسة جُمَل ثم قال ذلك الأعرابي و الله لا أزيد عليها و لا أنقص فقال الرسول :أفلح إن صدق .
من حق رجل الدين مثله مثل بقية خلق الله أن يشارك في العمل السياسي لكن أن يجب عليه أن يأتي البيوت من أبوابها فيلج كغيره من باب السياسية و قواعد لعبتها كما هي في الحياة الدنيا ، بعيداً عن هذا حلال و هذا حرام.