أعتقد أن الحملة التي نظمت على مسلسل عمر بن الخطاب كانت من أشرس الحملات التعبوية التي قام بها بعض أتباع جماعات الرفض، ومع هذا فشلت الحملة في إيقاف عرض المسلسل، وفشلت في الوقت ذاته في صرف أنظار المشاهدين عنها، حيث كان المسلسل مادة للنقاش في المجالس، ومجالاً لحوارات طويلة دارت حوله وحول الصور التي جاء بها المسلسل لتزامن صوراً أخرى رسخها الخطاب الفكري للتيار المُتغلب طوال العقود الماضية; لذا كان هدف تلك الحملة الموجهة هي حماية تلك الصور والأنماط الذهنية التي صنعوها وقولبوها في أذهان الناس على أنها حقائق مُطلقة لا تَقبل النقاش أو التفكير. نجاح مسلسل عمر -من وجهة نظري- ليس في مجرد عرضه على الشاشة، وإنما في كمية الأسئلة التي آثارها في كل ليلة حول المبادئ الأساسية لمفاهيم الدولة والمجتمع والتعاطي مع النصوص الدينية في مقابل المتغيرات المتجددة في الحياة المدنية، وكشف حالات التضخيم المُتعَمد لبعض المسائل الدينية حتى حولوها إلى ثوابت لا تقبل الجدل، إنه ببساطة نجح في إبراز صورة مغايرة لما يحمله الكثير حول تمازج الدين والدولة وعلاقة كل منهما بالآخر. ويُضاف إلى ما سبق فإن المسلسل أظهر الحجم الحقيقي لجماعات الرفض التي كانت تستهدف معارضة كل شيء لا يتوافق ورؤيتها الضيقة للقواعد الشرعية، فلا ينتهون من معركة حتى يجهزوا لأخرى في (لياقة) احتسابية يُحسَدون عليها، وبطبيعة الحال فإن أهداف تلك المعارك دائماً ما إن تنحصر في (إيقاف) أو (منع) شيء ما أو قد تكون المعركة (ضد) شخص ما والتأليب عليه، ومع أن الحملة المُنظمة ضد المسلسل استخدمت فيها كل الوسائل ابتداء من إصدار الفتاوى وانتهاء بالتهديدات التي أطلقها بعض المتشددين ضد القناة المنتجة للمسلسل مروراً بحفلات (التباكي) التي أصبحت أخيراً بمثابة (الثيمة) لتدشين هكذا حملات، ومع ذلك كله لم تنجح الحملة لا في منع المسلسل ولا في الحيلولة دون مشاهدته مما يدفعنا لأن نتساءل عن الحجم الحقيقي لجماعات الرفض، وهل هي بهذا الحجم والتأثير الذي يحاول الناشطين في تلك الجماعات تصويره لتكون لهم اليد الطولى في التحكم والسيطرة على القرارات المتعلقة بالمجتمع بحكم أنهم -وكما يزعمون- يُمثلون رأي المجتمع وضميره وبالتالي فلابد أن يكونوا شركاء في القرار؟. الحملة ضد مسلسل عمر أظهرت أن جماعة الرفض تملك أصواتاً عالية وقدرة مذهلة في الحشد -لكن ذلك لا يعني أنها تملك قاعدة شعبية تؤهلها لأن تتحدث عن المجتمع، وتدعي تمثيله وأنها ليست كما كانت في السابق في تأثيرها بعد انتشار أدوات التواصل والتي سمحت لنا أن نسمع أصواتاً كانت مغيبة ونطلع على آراء وأطروحات همشها القوم عمداً، لقد هيأت لنا تلك الوسائل أن نرى الصورة كاملة لا جزء مضخماً منها كما يريده البعض. ومع تكشف حجمهم الحقيقي إلا أن البعض لايزال يتعلل بهم في تأخير الكثير من القرارات المؤجلة التي كان السبب المعلن لتأخيرهاـ هو أن جماعات الرفض قذفت في (اللا وعي) لدينا بأن المجتمع يرفضها أو أنها تخالف خرافة الخصوصية التي استخدمتها حملات الممانعة في مواجهة أي قرار يخالف نمط تفكيرهم حتى غدت (الخصوصية) لافتة صالحة لكل زمان ومكان. لذا فإنه من الضروري إعادة تقييم للوسائل السابقة المتبعة في قراءة حركة المجتمع وردود أفعاله وأن لا نجعل قراراتنا التنموية رهينة لرؤية تيار دون غيره فقط، لأنه يملك السطوة (الصوتية) فمحاباة ذلك التيار عطل الحركة الطبيعية للمجتمع وأضاع جزءاً من أعمارنا في الصراع على هوامش لا علاقة لها باللحظة التي يعيشها المجتمع والدولة، فلابد من الانعتاق من تلك المعادلة إذا ما أردنا أن نبني مجتمعاً (طبيعياً) متسقاً مع نفسه ومع هذا العالم الذي أصبحت تحكمه قيم معولمة تخترق كل الحدود والثقافات، فلا مكان فيه للمتمترسين بالخصوصية
أحدث المقالات
أحدث التعليقات
الأرشيف
- نوفمبر 2020
- أكتوبر 2018
- مايو 2018
- نوفمبر 2017
- سبتمبر 2016
- مارس 2016
- فبراير 2016
- يناير 2016
- ديسمبر 2015
- نوفمبر 2015
- أغسطس 2015
- مايو 2015
- أبريل 2015
- مارس 2015
- فبراير 2015
- فبراير 2014
- ديسمبر 2013
- مارس 2013
- فبراير 2013
- يناير 2013
- ديسمبر 2012
- نوفمبر 2012
- أكتوبر 2012
- سبتمبر 2012
- أغسطس 2012
- يوليو 2012
- يناير 2012