كتب صديقنا وزميلنا العزيز محمد السحيمي في هذه الجريدة مقالا بعنوان “احسمها أنت ياسماحة المفتي” يستنخي صاحب الفضيلة عبدالعزيز آل الشيخ مفتي المملكة إصدار فتوى تمنع تزويج القاصرات مستنداً لحجج دينية ساقها (الشيخ) محمد -حفظه الله- ، ويبدو بأن صديقنا العزيز لم يتنبه إلى أن قضية (زواج القاصرات) إنما هي قضية ذات أبعاد قانونية لها علاقة مباشرة باتفاقيات دولية تحرم (الاتجار بالبشر) وتجرم انتهاك الطفولة، لذا فهي بحاجة إلى قرار تنفيذي وأن مكان الحسم هناك في وزارة العدل، الذي لازال وزيرها يتوشح بالصمت المطبق وكأن أطفالنا لا يستحقون من معاليه أن يخرج لهم ويطمئنهم على مستقبلهم ، وأنه لن يسمح بأن يختطف أحلامهم البغاة من البشر، وأن يشرح لهم مالذي منعه من أن يصدر قراراً يسكن روعهم ويؤمن خوفهم .
إن قضية (زواج القصر) أيها الزميل العزيز إنما تدخل في صميم عمل الأجهزة التشريعية التي تنظم إيقاع الحركة في الدولة والمجتمع؛ حيث المصالح المرسلة التي تجيز للدولة أن تنفذ من خلالها لتقنين المباح ومنعه، وهو الفضاء (الطبيعـي) لعمل الأجهزة التشريعية في الدولة، فأنظمة المرور على سبيل المثال لا أعرف أنها تمت استشارة المفتي فيها وخصوصاً أنها تحرم المباح؛ فالوقوف عند الإشارة الحمراء إنما هو من هذا الباب، وإن لم تخني الذاكرة فإن عهد الصحابة لم يكن هناك أنظمة تقيد حركة الخيول والجمال في أزقة المدينة، بل كانت مشرعة الوثاق وكذا الأمر في الأنظمة التجارية، حيث منعت الدولة فئة معينة من الناس من ممارسة التجارة وهي المباحة بنص القرآن الكريم (وأحـل الله البـيع وحرم الربا)، ولا أذكر أنه تم إصدار تلك القوانين برسم فتوى من المفتي، وإنما قامت الأجهزة التشريعية بعملها (الطبيعي) في تنظيم حياة الناس وفق القيم الجديدة لهذا الكون.
لذا فإن اختصاص سماحة المفتي – حفظه الله – إنما هو في الأمور الدينية وأعمال الآخرة، ونحن نتحدث في زواج القصر عن مصلحة دنيوية تختص بها أجهزة الدولة المنوط بها حماية الضرورات الخمس التي جاءت بها الشريعة وفق أنجع السبل التي يمكن حمايتها من خلالها، ومطالبة المفتي بإصدار فتوى (قانونية) إنما هو إضافة مَهَمة إضافية على كاهل فضيلته واختصاصاً لم تمنحه إياه الأنظمة، كما أن في ذلك إثقالا على فضيلته علاوة على المهام الجسام التي يتحملها – حفظه الله- ولأننا عندها سنطلب من فضيلته إصدار فتوى لكل قانون يصدر من مجلس الوزراء تؤكد بأن ذلك القانون قد جاوز القنطرة الشرعية، وبالتالي إضافة جهة ثالثة تضاف إلى المؤسسات التشريعية في الدولة علاوة على مجلس الشورى ومجلس الوزراء ليكون ثالثهما مكتب سماحة المفتي – سدده الله-.
وكما أسلفت فإن هناك استحقاقات دولية تمليها اتفاقيات دولية تعد بمثابة القانون الواجب التطبيق وقد أرتأت القيادة السياسية الانضمام لها إيماناً منها بأهدافها السامية وقيمها النبيلة، وكنا ننتظر من وزير العدل أن يصدر قراراً ( تنفيذيا) يمنع توثيق مثل تلك الزيجات لا أن يكتفي بوعود صحفية بـ (تنظيم) تلك العقود؛ لأن مفردة (تنظيم) إنما تطلق على تنظيم أمر مباح مما قد يفهم منه ممارسته بشروط ونحن ننازع بإباحته (دنيوياً) بعد أن أصبح جريمة في كل الدول التي تقدس حقوق الإنسان وتحترم كرامته فالمطلوب هو قرار (يمنع) ولا ينظم.
أيهـا الصديـق العزيز: أعتـقد أنه جاء الوقت لأن نتوقف عن استجداء الفتاوى الدينية في كل صغيرة وكبـيرة، وكل شاردة وواردة في حياتنا، فنحن أعلم بأمور دنيانا كما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه و سلم .
هذا آخر مقال نشر لي في جريدة الوطن في تاريخ ٢٠١٢/٠١/٢٤